د. محمود خليل |
ليس هناك خلاف على أن الجهود التي بذلها التنويريون منذ عصر رفاعة رافع الطهطاوي وحتى اليوم أحدثت تغييراً في أنماط التفكير الديني لدى قطاع من المصريين، لكنه قطاع محدود في الأغلب. لم تستطع النخبة المثقفة التي اجتهدت في إعادة صياغة مفاهيم قديمة واستحداث مفاهيم جديدة على خريطة العقل الديني المصري أن تهبط بأفكارها واجتهاداتها إلى القطاعات الشعبية من المصريين. هذه القطاعات التي تراقب حالة الصخب حول تطوير الخطاب الإسلامي أو والجدل الدائر حول أساليب التفكير الديني كموضوعات غريبة عنها.
خط التواصل بين رواد التنوير والقطاعات الشعبية عانى من مشكلة أساسية تتعلق باللغة الصعبة والمعقدة التي يتحدث بها التنويريون. فالمواطن العادي يسمع كلاماً كثيراً حول إحياء النهج العقلاني للمعتزلة، ومراجعة كتب التراث، وقضايا التأويل الديني، والثابت والمتغير وأصول الفقه ولا يفهم منه شيئاً. إنه يلقي أذنه فقط إلى من يتحدثون في المسائل المتعلقة بالطقوس الدينية، كالصلاة والصيام والحج والعمرة والدعاء وغيرها. فهو منشغل بشكل أساسي بجوانب الدين المتعلقة بتفاعلات الحياة اليومية. كما أن بعض المتدينين الشعبيين يؤمنون أن العقل يجب أن يغيب عندما يحضر الدين، فجوهر الإسلام هو "التسليم"، ولا يفرق البسطاء في هذا السياق بين التسليم لله تعالى، وتسليم عقولهم وحياتهم لمن يتولى شرح الإسلام لهم، وقد يخطىء أو يصيب في الطرح الذي يقدمه.
اللغة التي يقدم بها التنويريون أفكارهم عجزت عن اختراق الذهنية الشعبية أو إحداث تغيير ذي بال في التناول الشعبي للدين. فما يحلق في آفاق التنظير والتجريد يصعب أن يجد له مكاناً على أرض الواقع المعاش والتفاعلات اليومية للبشر. وعلى العكس تماماً تجد البسطاء من المصريين أكثر اهتماماً واكتراثاً بخطاب "الدعاة الجدد" مقارنة بـ"دعاة التجديد". فالدعاة الجدد يركزون على الأولويات الاعتيادية للمتدين الشعبي، والمتمثلة في طقوس العبادة، وطقس الدعاء، بالإضافة إلى الطقس القديم المتجدد المتمثل في "الحكي والقص" أو "الحكاوي".
ففي الوقت الذي يطرح فيه "دعاة التجديد" مسائل معقدة تحتشد بالمصطلحات الغامضة ويغلب عليها خشونة الطرح النظري المجرد، تجد "الدعاة الجدد" يستغرقون في سرد حكايات وأقاصيص لا تنتهي حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، يختلط فيها الغث بالثمين، والمقبول عقلاً وتاريخا، بما يصعب على العقل قبوله ويعسر على المتحدث بها إثبات واقعيتها. إنها في النهاية قصص يختلط فيها الواقع بنوعين من الخيال، أولهما الخيال التاريخي، وثانيهما خيال الداعية الحكاء. وتجد هذه القصص آذاناً مصغية من جانب المستمعين إليها من البسطاء، نظراً لأنها تقدم بلغة بسيطة هي لغة الحياة المعاشة، وتشتبك في بعض الأحوال مع قضايا ومشكلات الحياة اليومية، ما يجعل لها صدى جيداً لدي المتدينين الشعبيين الملتصقين أكثر بيومهم.
منذ رفاعة الطهطاوي ومن بعده كانت هناك محاولة لتحرير العقل الديني من التشبث بالدجل والسحر، وكان هناك جهداً حثيثاً أيضاً من جانب مؤسسة "التدين الرسمي" يصب في هذا الاتجاه. ورغم ذلك فإن الواقع يؤكد أن هذا العقل لم يزل أسيراً للدجل والخرافة. وليس أدل على ذلك من عصابة "أم خديجة" التي أمطرت مشاهدي القنوات الفضائية بإعلانات عن "أم خديجة المغربية" (اكتشف فيما بعد أنها شخصية وهمية) وقدرتها على رد الغائب وإعادة الحبيب وتزويج العانس والقيام بالرقية الشرعية بالكتاب والسنة، وغير ذلك. وكان أغلب زبائنها من المتعلمين والبسطاء الذين يتشاركون في "التدين الشعبي". فأمام الخرافة والخوف من المجهول يستوي المتعلم مع غير المتعلم. ولنا أن نسأل ما الفارق بين تفكير من تعاطى مع إعلانات أم خديجة ولجأ إليها والمصريون الذين تفاعلوا أواخر القرن التاسع عشر مع "سيدي العريان" الذي كان يسير عارياً في شوارع المحروسة ويعتبره المصريون ولياً من أولياء الله يلتمسون البركات وحل المشكلات منه؟.
ثمة علة أخرى ترتبط بخط الاتصال المنقطع ما بين التنويريين والمتدينين الشعبويين، يتعلق بنظرة المواطن العادي إلى رواد التنوير كجزء من مركب السلطة أو كأعضاء في جماعة المسيطرين الذين يستهدفون رسم خرائط المجتمع طبقاً لتوجهات معينة، ولخدمة أغراض وأهداف محددة. هذه العلة أحياناً ما تصد الجمهور العادي عن الاستماع أو الاكتراث برسائل التنوير. فتدفق هذه الرسائل من أعلى إلى أسفل أحياناً ما يقلل من تأثيرها، في وقت تعلو فيه قيمة الرسائل المباشرة وتصبح أكثر تأثيراً، وهي الرسائل التي تستهدف الجماعات الدعوية والوعاظ العاديين الذين يعملون داخل المساجد وبين الناس ترسيخها في الأذهان. فسوق الشعبويات يتسع للنوع الأخير من الرسائل، حتى لو تناقضت مع العقل وشذت عن الفهم العقلاني للدين، في وقت تكسد فيه بضاعة التنوير داخل هذا السوق، ولا تجد رسائل التنويريين "المسيطرين" الصدى المطلوب لدى طوابير من البشر التي تملك طرقها الخاصة في التمرد عليها، كجزء من تمردهم الأكبر على رسائل السلطة.