صلاح الدين الأيوبي |
كتب: بدرالدين حسن هنو
رغم أن التاريخ كل أحداثه وقعت بالفعل، لكن الغوص كل مرة في أعماقه يأتي بنتائج مدهشة، فما اعتدنا أن نتلقنه في المدارس ومن الآباء وما يصلنا من وسائل الإعلام عن بعض الشخصيات والأحداث التاريخية، نكتشف يومًا بعد يوم أن لا شيء مما تم تلقينه لنا كان صحيحًا، بل كلها كانت تعتمد على الدعاية لا المعرفة التاريخية الصادقة، فها هو الناصر المنتصر القاهر للصليبين، مؤسس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبي، عرَّفوه لنا رمزًا وطنيًا، ودرَّسوه لنا مرارًا وتكرارًا، فترسخ في عقولنا بطلًا مغوارًا، وفخرًا للإسلام السني، لكن هل كانت الحقيقة هكذا؟ أم أن التاريخ سيصرخ بما صمتت عنه السينما والكتب المدرسية؟
دماء إسلامية لا صليبية
بالنظر إلى الصورة الذهنية عن صلاح الدين الأيوبي، نجد أنه ترسخ كمقاتل للصليبيين، وذلك بسبب انتصاره في موقعة حطين، وهي حقيقة لا مفر منها، لكن التاريخ يقر ويعترف بأن صلاح الدين الأيوبي قد قتل من المسلمين أكثر ما قتل من الصليبيين، فيذكر ابن كثير في البداية والنهاية، أن صلاح الدين قد قام باغتيال مؤتمن الخلافة جوهر، الذي كان قائدًا للجند الذين جلبهم المعز لدين الله الفاطمي من السودان، فقد ادعى صلاح الدين أنه كان يتراسل مع الصليبيين، فقتله بدلًا من محاكمته، ونتيجة لذلك انتفض الجند، فحاصرهم صلاح، وقتلهم، وكان عددهم خمسين ألفًا، ويزداد الرقم مع اختلاف المصادر التاريخية كالنجوم الزاهرة وسير أعلام النبلاء.
خريطة |
ولما مات نورالدين حاكم حلب فجأة، وذهب إليها صلاح الدين لينقض على حكمها، كما انقض من قبل على حكم مصر بعد وفاة حاكمها الشيعي الإسماعيلي الخليفة العاضد فجأة أيضًا، فقد قاتل جند حلب، وعلى الرغم من أن عدد القتلى غير متوفر، إلا أن أقرب المصادر التاريخية لصلاح الدين الأيوبي نفسه، وهو المؤرخ ابن شداد، يقول في هذه الواقعة: "كانت مقتلة عظيمة".
وأما الصليبيون الذين قاتلهم صلاح الدين وقاتلوه مرارًا، فقد بلغ عدد من قتلهم في موقعة حطين التي انتصر فيها عليهم 200 شخصًا من الأسرى، وتبالغ المصادر التاريخية في عدد من تم قتلهم وأسرهم في الموقعة ذاتها، فيصل الرقم إلى 30 ألف مقتولًا، و30 ألف مأسورًا، على الرغم من أن جيش صلاح الدين في الموقعة كان عدده 12 ألف جندي، لكن على عدم منطقية الرقم فيظل أقل ممن قتلهم صلاح الدين من المسلمين السنة فقط.
إبادة الفاطميين
"فعل صلاح الدين ذلك لينقرضوا .. وقد انقرضوا"، هذه الجملة للمؤرخ المقريزي خير شارح لما فعله صلاح الدين بالفاطميين، بداية من انقلابه على الخليفة الفاطمي الشيعي العاضد، مرورًا بخلع العاضد من الحكم ثم وفاته فجأة، وهو ابن 21 سنة، والاستيلاء على كل ممتلكات الأسرة الفاطمية، وتسليط قراقوش وزير صلاح الدين عليهم، وحتى الآن يقول المصريون عبارة "حكم قراقوش" إذا وجدوا أمامهم شخصًا ظالمًا.
يحكي المقريزي أن قراقوش قد جمع الفاطميين في دار بحارة برجوان، واحترز عليهم، وفرق بين الرجال والنساء لئلا يتناسلوا، وليكون ذلك أسرع لانقراضهم، فالقصر تم إغلاقه على 18 ألف نسمة، 10 آلاف شريفًا وشريفةً من آل بيت النبوة أي الأمراء الفاطميين، و8 آلاف عبدًا وخادمًا وأمةً، أما القصر الآخر الذي كانت فيه النساء الفاطميات، فقد استولى عليه الخراب، وكان قريبًا من جماعة من المفسدين الذين اعتدوا عليهن، وعدد من بقى من هذه الذرية بعد فترة حكم صلاح الدين وأسرته بلغ 252 شخصًا من الذكور والإناث، وذلك من إجمالي 18000 شخصًا اعتقلهم صلاح الدين.
هذا ما فعله صلاح الدين الأيوبي للمسلمين السنة والشيعة، وزعيميهما نورالدين الحاكم السني، والعاضد الحاكم الشيعي، الذين كان صلاح الدين يعمل لديهما سويًا وقد انقلب عليهما، ودعا في البداية للخليفة العباسي في المنابر لإيهامه بأنه فعل ما فعل لتوحيد الجيوش الإسلامية، ثم أسس دولته الأيوبية على أنقاض الدولتين النورية والفاطمية اللاتين سلبهما، وبدأت معارك أخرى بين الجيش الأيوبي المسلم السني والجيش العباسي المسلم السني.
"أنا والمحتل على اخويا"
لكن قبل تلك الحروب هناك حلقة هامة في حياة صلاح الدين الأيوبي، وهي القدس، التي حصل عليها بعد انتصاره في معركة حطين عام 583 هـ ، لكن يجب الإشارة إلى أن الجيش الأيوبي قد انهزم هزيمة فادحة في معركة تل الجزر عام 573هـ، أي قبل حطين بـ 10 سنوات، وهزيمة أخرى أمام الصليبيين في معركة أرسوف بعد حطين بـ4 سنوات عام 587 هـ، التي أعقبها صلح الرملة عام 588 هـ، وفيه تنازل صلاح الدين الأيوبي عن ساحل فلسطين كله، وساحل لبنان، وظل الصليبيون يسيطرون على هذه السواحل لمدة مائة عام أخرى، وقد قبل صلاح الدين بصلح الرملة ليكسب حليفًا يعاونه، وهم الصليبيون، وليتفرغ إلى قتال جيش الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" الذي قرر الإطاحة به بسبب تقاعس صلاح الدين عن تلبية أوامره بطرد الصليبيين نهائيًا من بلاد المسلمين، وذلك ما ذكره ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ".
ولا يقف الأمر عند التحالف الواقع بين صلاح الدين، الذي يعتبره البعض رمزًا إسلاميًا، وبين الصليبيين وملكهم ريتشارد قلب الأسد، فيقول المؤرخ د.قاسم عبده قاسم في كتابه "تاريخ الأيوبيين والمماليك"، "كان-صلاح الدين- لطيفًا مع الصليبيين ومتعاونًا معهم، بل فكر في مصاهرتهم، وغفر لريتشارد قتله 3000 أسير مسلم"، ويذكر الواقعة أيضًا ابن شداد في "النوادر السلطانية"، ويفسر سببها بأن صلاح الدين كان قد توقف عن إعطاء فدية هؤلاء الأسرى، فغدر بهم ريتشارد، وكان قد تسلم ريتشارد عكا على أن يكون أهلها آمنين على أنفسهم، لكن بدلًا من أن يثأر لهم صلاح الدين، فقد أرسل الهدايا لريتشارد، فيذكر ابن شداد أن في اليوم ذاته جاء من عند ريتشارد 3 رسل، طلبوا الفاكهة المثلجة التي كان يشتهيها ريتشارد، فأدخلهم صلاح الدين لسوق العسكر، وأكرمهم، وعادوا إلى ريتشارد بالفواكه.
هذه أيضًا صفحات موجودة في كتب التاريخ لا يمكن انتزاعها وإخفاءها لاختزال شخص صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين فقط، وغض البصر عما فعله بعدها من تحالف مع الصليبيين، ولم يمكث صلاح الدين حيًا لمدة طويلة، فقد مات بعد صلح الرملة بعام أي سنة 589 هـ، أما عن القدس فقد منحها الملك الكامل الأيوبي للصليبيين كهدية من أجل قتال جند أخوته الأيوبيين، وإعادة تقسيم تركة صلاح الدين، حتى تفتتت الدولة الأيوبية وسقطت بيد المماليك، وقد تنازل الكامل عن القدس عام 626 هـ وفقًا لكتاب "ِشذرات الذهب" لابن العماد.
"الناصر" و"صلاح الدين" طردا الصليبيين
أما مَن طرد الصليبيين نهائيًا، فكان سلطان مصر المنصور قلاوون، أي كل المجد الذي يحظى به صلاح الدين الأيوبي من أجل نصر تحول إلى هزيمة بالتحالف مع المعتدين الصليبيين، يجب أن يذهب إلى السلطان المنصور قلاوون، واستكمل القتال ضد الصليبيين ابنه الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون وأخوه الناصر محمد ابن قلاوون، أي ليس الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكان ذلك في نهاية القرن السابع الهجري.
صلاح الدين |
ومن شنائع صلاح الدين الأيوبي الأخرى هي هدم 18 هرمًامن أهرامات الجيزة لبناء قلعته، وهي واقعة اتفق على حدوثها العديد من الأثريين المصريين، إلى جانب قتله شهاب الدين السهروردي، الفيلسوف الصوفي المسلم، بعدما تآمر عليه الفقهاء الذين كان يتبعهم صلاح الدين، إلى جانب حملات نهب بلاد النوبة واليمن والتي كانت دولًا إسلامية، والقضاء مكتبة بيت الحكمة التي بناها الفاطميون.
ولا يزال التاريخ يحمل في جوبعته الكثير من الحقائق التي يتم تعمد إخفائها، وما الهدف من التاريخ القيام بالدعاية لشخص ما أو التحقير من شخص ما، وإنما الوعي بالماضي والمعرفة التاريخية الحقيقية لكل حدث وشخصية دون تزوير أو تشويه أو تعظيم، لبناء مستقبل عقلاني سليم، وحينها تكون المعرفة من أجل المعرفة، وتُسرد الحقائق كما هي.