كتب: بدرالدين حسن هنو
يظن الكثيرون ممن يقرأون القرآن أن الآيات التي تحدثت عن المسيح كلها تنطبق على مجموعة واحدة من البشر هم المسيحيون، ومن هنا تتولد معلومات مغلوطة عن العقيدة المسيحية لدى القارئ غير المسيحي، وفي حقيقة الأمر أن القرآن في بعض الآيات التي ذكرها عن المسيح والمؤمنين به، كان يتناول بدعة أو هرطقة مختلفة عن التي يتناولها في الآية الأخرى، وكانت تلك البدع منتشرة في مجتمع شبه الجزيرة العربية، لذلك كان القرآن يحارب تلك البدع، وفي الوقت ذاته كان رجال الكنيسة يكذبونها في مؤلفاتهم، وفي هذا التقرير نرصد بعض الآيات القرآنية التي تناولت تلك الهرطقات، وذلك من أجل تصحيح الأفكار المغلوطة عن العقيدة المسيحية لدى القارئ غير المسيحي، والتي قد تكون تولدت نتيجة سوء فهم للنص القرآني، وعدم وعي بجوهر العقيدة المسيحية.
الهرطقة الأولى
أولى الهرطقات التي تحدث عنها القرآن هي البدعة المريمية أو بدعة الفطائريين، فقد وردت في سورة المائدة الآية رقم 116 وتقول: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
تفسير الطبري |
وظهرت هذه البدعة في القرن الرابع الميلادي، قد ادعى أصحاب هذه البدعة بأن السيدة مريم العذراء بها شيء من الله، فصاروا يعبدونها بتقديم أقراص الطحين أو الفطائر إليها، ظنًا منهم أن إنجابها ليسوع المسيح تم نتيجة تزاوج مع الله، ويُعتقد أن ثمة أصل وثني لهذه البدعة، وهو ما ترفضه العقيدة المسيحية تمامًا.
الهرطقة الثانية
ثاني هذه الهرطقات هي بدعة أوطيخا نسبة إلى أوطاخي، الذي كان راهبًا بإحدى أديرة القسطنطينية، وادعى هذا الراهب أن المسيح قد تأله، واختفت صفاته البشرية، فاندمجت الصفات اللاهوتية بالصفات الناسوتية، وصار جسد المسيح غير بقية البشر؛ لأنه أصبح جسدًا إلهيًا، وظهرت هذه البدعة في القرن الخامس الميلادي.
وهذه البدعة يذكرها القرآن، ويرد عليها في الآية رقم 17 من سورة المائدة: لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ.
الهرطقة الثالثة
فهي تخص الإيمان المسيحي في جوهره، فالله في المسيحية واحد تجلى في 3 طبائع متحدة ومتساوية في جوهرها هي الآب والابن والروح القدس، وتسمى كل طبيعة من الطبائع بأقنوم (ج:أقانيم)، لكن في القرن الثالث الميلادي ظهرت بدعة الأقنوم الواحد التي ابتدعها سابيليوس، وعملت على فصل الأقانيم المتحدة عن بعضها البعض، وادعت أن الآب قد انفصل عن الابن وكليهما انفصلا عن الروح القدس، وأن كل طبيعة من الثلاثة كان لها زمن ودور معين يبدأ وينتهي، في حين أن وحدانية الله تقوم على التزامن الأزلي الأبدي لهذه الأقانيم الثلاثة.
فبعض الفرق اختارت أقنومًا واحدًا من الأقانيم الثلاثة، واعتبرته الله وعبدته، وبعضها الآخر كما ذكرنا قد قام بتأليه المسيح والعذراء، وقد رد القرآن على هذه البدعة في الآية 116 من سورة المائدة، ويكرر الرد في الآية 73 من سورة المائدة أيضًا : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ويشدد العهد الجديد في الكتاب المقدس على وحدانية الله في أكثر من موضع أبرزهم الإصحاح 12 من إنجيل مرقس، فيقول في عدد 32: "...لأَنَّهُ اللهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ"، وكذلك البسملة المسيحية تبرز وحدانية الله ممثلة في وحدة الأقانيم الثلاثة "بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين".
الهرطقة الرابعة
استخدمها الكثير من المفسرين في تفسيرهم لإحدى آيات القرآن، فالآية رقم 157 من سورة النساء تقول: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.
فقد استخدم بعض المفسرين البدعة الباسيليدسية، والتي ظهرت في القرن الثاني الميلادي، وتقول بأن الذي تعرض للتعذيب والمحاكمة لم يكن المسيح، وإنما شبيهًا له، مثلما أورده جعفر الطبري، في كتابه جامع البيان، من خمسة تفسيرات تحاول الإجابة عن من يُمكن أن يكون قد أُلقي عليه شبه المسيح، ولم يجزم الطبري بصحة أية رواية، ووضع كذلك الإمام البيضاوي عدة تفسيرات مختلفة ما بين التفسير المعتمد على البدعة الباسيليدسية، وما بين تفسير آخر ذهب فيه إلى أن الأمر كان شائعة برمته ولم يُصلب أحدًا، ويتبنى نفس الرأي الإمام الزمخشري.
ومَن لم يستخدموا تلك البدعة في بناء تفسيرهم في هذه الآية هم إخوان الصفا، وتفسير ابن كثير في جزئه الرابع الذي يقول بموت المسيح 3 أيام ثم رفع الله له فيما يُعرف بقيامة المسيح، ويذهب الإمام فخر الدين الرازي في الجزء السابع من التفسير الكبير إلى طرح 6 إشكاليات تناقش مسألة إلقاء شبه المسيح على غيره وبدعة الشبيه، ورأى المفسرون الذين رفضوا الاعتماد على بدعة باسيليدس لتفسير الآية، هو عدم قدرة أي مفسر على تحديد الشخص الذي أُلقى عليه شبه المسيح، ولا يزال معنى هذه الآية مختلف عليه.
ومن خلال البدع السابقة التي رد عليها القرآن، يظن بعض ممن لم يقرأوا الكتاب المقدس وخاصة الإنجيل، ولم يعرفوا حقيقة جوهر الإيمان المسيحي، يظنون خطئًا أن في تلك الآيات القرآنية ردًا على العقيدة المسيحية ذاتها، فيعتقدون بأفكار مغلوطة حول العقيدة المسيحية، ويظنون بشكل خاطئ أن المسيحيين يعبدون إلهًا من بين ثلاثة آلهة، وكذلك يظنون أن المسيحيين يعبدون مريم العذراء، ويعتقدون أن المسيحيين يعتبرون أن المسيح هو الله، في حين أن القرآن في كل ما سبق من آيات لم يكن يتحدث عن العقيدة المسيحية، بل كان يرد على بعض الهرطقات المسيحية التي انتشرت في شبه الجزيرة العربية.