ماجدة هارون |
حوار: بدر الدين حسن هنو
شهد التاريخ المصري الحديث العديد من عمليات التزييف والتشويه للحقائق، مما ترتب عليه ترسيخ مئات الأفكار المغلوطة داخل عقل ووجدان كل مصري، ونال اليهود المصريون الحظ الأكبر من عمليات التشويه والتنميط، فتعرضوا للاستئصال من نسيج المجتمع المصري، فصار حالهم كحال طفل لفظته أمه دون حتى أن تودعه، لكن وسط هذه الجريمة الكبرى التي تعرض لها يهود مصر، أبى بعض اليهود أن يفارقوا أمهم الحبيبة لأنهم تأكدوا من أنها ليست من لفظتهم، فصار اليهود يناضلون من أجل تواجدهم في مصر، ودفعوا ثمن ذلك حياة مؤلمة وسط النظرات المهينة والسلوكيات المشينة والذكريات التي تُمحى والواقع الذي يُزيف، إنها رحلة يفتح إلينا الآن معبد عدلي بالقاهرة أبوابه كي نستكشفها، ونحاول تصحيح ما تم تزييفه وتشويهه، وتفتح إلينا الأستاذة ماجدة هارون رئيس الطائفة اليهودية بالقاهرة قلبها وصندوق ذكرياتها؛ لتساعدنا في هذه العملية الصعبة من خلال هذا الحوار.
في السنوات الأخيرة نلاحظ تزايد الكتب المهتمة بتاريخ يهود مصر، في رأي حضرتك ما سر هذا الاهتمام؟
اعتقد أن ذلك الاهتمام بدأ مع ثورة 2011، فلم تكن ثورة على النظام الحاكم فقط، وإنما كذلك كانت ثورة للشباب على الذات، وعلى ما كان مسكوتًا عنه بشكل عام، وكانت حياة الطائفة اليهودية بعد سنة 1952 جزءً من المسكوت عنه، وأعتقد أن تصريح القيادي الأخواني دكتور عصام عريان بشأن عودة اليهود المصريين كان عاملًا آخرًا أعاد الأنظار إلى تلك المسألة، بغض النظر عن أنني لا أعلم هدف عصام العريان من ذلك التصريح.
رئيس الطائفة اليهودية |
ما السر في الظهور المكثف لحضرتك في مقابل عدم ظهور رؤساء الطائفة السابقين؟
لا أعلم بالتحديد ما السبب في عيش السابقين في الظل، هل يتعلق بالخوف، أم بإيثار العزلة، لكن بالنسبة لي عندما تسلمت رئاسة الطائفة وجدت أن الطائفة تتكون أغلبها من سيدات كبار في السن، و"من وقت ما ادركت أني من آخر اليهود المصريين حسيت كأننا في تياترو وده هيكون ظهورنا الأخير، بقيت بأحرص دايما إن الظهور ده يبقى رائع وحاجة محصلتش"، ولدي شعور دائم بالمسؤولية تجاه تاريخ يهود مصر وصورتهم ومحاولة إصلاح التشويه الذي تم لهم، وأعتقد أن ظهوري المتكرر هو سبب آخر لاهتمام الناس بمعرفة المزيد عن يهود مصر.
إلى أي مدى ساهمت هذه الكتب في رأي حضرتك في تصحيح الأفكار المغلوطة عن يهود مصر؟
معظم هذه الكتب قد تكون تناولت تاريخ اليهود وحياتهم، وذلك من شأنه تصحيح بعض المعلومات المغلوطة عن اليهود المصريين وتاريخهم، لكنني لا أعتقد أنها صححت أفكارًا مغلوطة عن اليهود المصريين، "الأفكار المغلوطة مزروعة ومتجذرة في الناس ومش هتتغير في يوم وليلة"، والقصة الكاملة لتاريخ يهود مصر لم تُحكى بعد رغم كل ما تمت كتابته.
معبد يهودي |
ما هي أبرز الأفكار المغلوطة والأنماط التي فُرضت على الصورة الذهنية لليهود؟
أخذت تنهيدة وأعطت ابتسامة تحمل في طياتها الألم ونظرت نظرة دامعة متحسرة على ما فُرض عليها وعلى يهود مصر من أنماط خاطئة ثم ضحكت وقالت: "دول كتير أوي، الناس لما بقت تحب تشتم بعض بتقول "أنت يهودي".
في البداية أود أن أصحح أن الصورة المرسومة في الأذهان عن اليهودي بأنه منحني الظهر وخبيث وذو أنف طويل، هي الصورة التي رسمتها أوروبا لليهود، ولا علاقة لليهود بشكل عام بها بالتأكيد، وبالأخص يهود مصر.
أما عن أبرز الأفكار المغلوطة عن يهود مصر هي الجاسوسية، فاليهودية صارت تعني الجاسوسية لصالح اسرائيل في أذهان الناس، وهناك خلط كبير بين اليهودية كدين والصهيونية كفكر سياسي، فـ"أنا يهودية وضد الصهيونية"، "لما كنت بتكلم، ناس كتير كانت بتعلق وتقول ما تروحي بلدك، وفي الحقيقة انا مليش بلد غير مصر، أنا سافرت برا واشتغلت لكن محستش حقيقي براحة إلا في مصر".
ماجدة هارون |
يُشاع عن اليهود صفة الانعزالية، فلماذا نجد يهود مصر يكسرون هذه القاعدة؟
صفة الانعزالية مرتبطة بيهود أوروبا الذين عاشوا في "جيتو نتيجة" ظروف سياسية ومجتمعية معينة في فترة زمنية معينة، "كان محدش يقدر يدخل الجيتوهات غير اليهود، هما بس اللي يطلعوا ويدخلوا".
أما يهود مصر فكانوا منصهرين في المجتمع المصري، "كانوا مسلمين ومسيحيين ويهود تجار في قلب بعض وساكنين في نفس العماير"، "عمر يهود مصر ما كانوا انعزاليين لأن المصري اصلا مش انعزالي بغض النظر عن دينه، أوروبا كانوا ميقبلوش الغريب لكن مصر استقبلت الكل والكل عاش فيها".
المجتمع المصري مكنش مهووس دينيًا زمان، كان الدين جزء من حياة الإنسان، فيذهب كل فرد ليتعبد في المسجد أو الكنيسة أو الكنيس، ثم يعيشون حياتهم بشكل طبيعي.
عرض مسلسل مأمون وشركاه شخصية يهودية مغربية تتسم بالبخل والخبث ولا تأكل من أكل الآخرين، فهل هذا النموذج موجود؟
أنا لم أشاهد المسلسل، لكن للسينما والدراما دور في تشويه صورة اليهودي، وذلك عن طريق تجسيده في وقت معين في شخصية المرابي أو الخبيث، لكن مثل هذه الشخصية التي عرضها المسلسل متواجدة على أرض الواقع في اليهود المتشددين السلفيين، ولم يكونوا منتشرين في مصر، ومن أكلاتهم الكوشر الذي يجب طبخه بيد يهودية ولا يخلط فيه عنصرين من نفس الحيوان.
كيف أثر تهجير اليهود المصريين عليهم؟
شعروا بجرح كبير جدًا، هناك العديد منهم لديه حنين جارف، كانوا بيقولولي "مصر تركتنا لكن إحنا متركنهاش"، فهم يشعرون بإحساس الطفل الذي لفظته أمه.
|
هناك قصة لا أنساها لصائغ كان يتعامل والدي معه، وعندما حدثت هزيمة 1967، تم القبض عليه وبعدها سافر لإسرائيل، فقبل سفره كان يقول لوالدي "أنا معرفش حاجة غير مصر ولا اعرف غير اللغة العربية"، وعندما سافر مات بعدها بسنة، هو "زي السمكة اللي خرجوها من المياه وده كان حال معظم يهود مصر في الخارج".
ببساطة الأفكار المغلوطة عن اليهود تسببت في خلو العراق وسوريا من اليهود، ومصر قريبًا ستكون خالية من اليهود.
ماذا خسرت الدول التي قامت بتهجير اليهود؟
خسرت جزءً من أسباب تميزها، فالتنوع الموجود داخل كل مجتمع يميزه ويعطيه نوعًا مختلفًا من الإبداع والثقافة وبالتالي نوع مختلف من الحضارة، الأمر يشبه دخولك لسوق العطارة الممتلئ بالأشكال والألوان والروائح والأطعم المختلفة والمتنوعة التي تضفي تميزًا وجمالًا لذلك السوق، وذلك يختلف عن دخولك لسوق العطارة ولا تجد فيه إلا ملح أو فلفل، وهكذا حال المجتمع التي غادرها اليهود وغير اليهود، فالأمر نفسه ينطبق على الجاليات الأجنبية.
هل هناك شيء مميز من تاريخ يهود مصر مسكوت عنه وتريدين إبرازه؟
ما لا يعرفه الناس أن العدوان الثلاثي على مصر كان يمكن أن يتم منعه، والسبب كان يهودي مصري اسمه "هنري كورييل"، هذا الرجل كان من مؤسسي الحزب الشيوعي المصري، وقد تم طرده قبل سنة 1956، وهاجر إلى فرنسا، وأثناء تواجده هناك عرف بمخطط العدوان الثلاثي، وأرسله كاملًا إلى عبد الرحمن صادق الملحق الإعلامي في السفارة المصرية في باريس، ولكن إهمال هذه المعلومات، أدت للعدوان الثلاثي على مصر، "واللي ميعرفهوش الناس أن هنري كورييل بعد كدة منح بيته في الزمالك للجزائر ليكون سفارة لها في مصر بعد مشاركته في حركة استقلال الجزائر".
|
وهكذا أوضحت لنا الأستاذة ماجدة هارون رئيس الطائفة اليهودية أبرز الأفكار المغلوطة التي حاصرت وسجنت وشوهت يهود مصر لسنوات وعقود، فخسرت مصر مكونًا هامًا من مجتمعها، وخسر المصريون سماحتهم التي تحولت لعنف وكراهية وقودها الجهل بالتاريخ الذي حدث بفعل عمليات تشويه وتزييف يهود مصر وتاريخهم.
معبد يهودي |
وآخر ما يمكن إضافته في ذلك الصدد لتأكيد ما قالته السيدة ماجدة هارون هو أن الفضل في إعلان مصر أنها أول دولة تكون خالية من فيروس سي يرجع إلى مخترع عقار السوفالدي، الذي منح مصر في 2014 تركيبة هذا الدواء، على أن تصنعه شركات الدواء المصرية دون الاستعانة بالشركات الأجنبية، وأعلن أن العقار سيكون هدية للشعب المصري، ومخترع العقار هو "ريموند شينازي"، اليهودي المصري الذي طُردت عائلته من مصر حينما كان عمره 13 عامًا، ورغم أنه عاش في مخيم لاجئين في إيطاليا لسنوات، فإنه يقول "إن المحروسة لم أنساها على الإطلاق، وهي دائمًا في ذاكرتي".